خديجة الجديدة القديمة..!

الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي

 

مشكلة الجمهور مع الشعر الحديث أنه لا يفهم الكثير منه..

لا حظوا أني قلت مشكلة الجمهور.. ولم أقل مشكلة الشعر الحديث..

ذلك أن الفهم عملية تعتمد على القارئ بقدر ما تعتمد على الشاعر..

ومع ذلك..!

كان الشاعر يكتب وفي ذهنه الجمهور..

أوشك أن أقول: لا يكتب إلا وفي ذهنه الجمهور..

كان يكتب "غزلاً" في الصفات الحسيّة التي تعجب الجمهور..

(كانت الخرعوبة ذات الكفل تستهوي الجمهور!)

وكان يكتب "حكماً" تلخّص تجارب الجمهور مع الحياة..

(في مجملها شكوى من الزمان.. وتحذير منه)

وكان يكتب "مديحاً" في رجل يتمتع بالصفات التي يعشقها الجمهور..

( في مقدمتها الكرم والشجاعة ) ..

وكان يكتب هجاء في إنسان بلي بطباع يحتقرها الجمهور..

(في مقدمتها البخل والجبن)..

بوسعنا أن نقول إننا نحب الشعر القديم أو نكرهه..

ولكن ليس بوسعنا أن نقول إننا لا نفهمه..

وذلك لأنه كُتب ليُفهم..

(باستثناء شعر أبي تمام وبقية المصدومين بالحداثة)

*

 ثم جاء الشاعر الحديث ليقلب الطاولات..

وينسف المعادلات..

لا يكتب الشاعر الحديث والجمهور في ذهنه..

وأوشك أن أقول أن الشاعر الحديث لا يكتب

إلا إذا أقصى الجمهور من ذهنه..

(ويستغرب بعض الشعراء المحدثين من عدم تصفيق الجمهور لهم في الأمسيات

الشعرية.. واعجباه!)

يحاول الشاعر الحديث أن يعبّر عن رؤاه.. وأحلامه.. وكوابيسه.. وشطحاته..

 

فهم من فهم.. وجهل من جهل..

ومعظم الجمهور لا يفهم..

هذه ــ باختصار شديدــ قصة الجمهور مع الشعر الحديث..

*

عندما يظهر شاعر حديث يتحدّث بلغة تجد صدى عند الجمهور.. فإنه ينجح

في وصل عراه بتراثه.. وإرجاع نسبه إلى أجداده الشعراء العرب عبر القرون..

ويستحق أجرين:

أجر التجديد..

وأجر صلة الرحم..

*

في هذا الديوان الجميل ــ شكلاً وموضوعاً ــ شعر رائع لم يتخلّ عن أصوله القديمة..

ولم يتخل عن ولائه للتجديد:

اسم الديوان: خديجة

واسم الشاعر: محمد جبر الحربي

والآن..

إلى جولة سريعة ترينا كيف يمكن للشاعر الموهوب أن يكون في الوقت نفسه،

أصيلاً ما شاء ومعاصراً ما شاء..

*

*في الشعر القديم كان "بيت القصيد" مطلباً أساسياً يتوخّاه كل شاعر..

                                               

(تمنى بشار بن برد لو كان له بيت قصيد واحد في كل قصيدة)

وديوان خديجة مليء "بأبيات القصيد":

* كُلّ الأيام حدادْ

لو زرتك في الصبح..

لكنت الأعيادْ.

* قُتلتُ.. وقاتلي بلدي!

* نبتٌ صباحيٌ يشقّ الأرض..

تبصرة الرياحُ عشيّة..

لكنه يبقى أمام الريح منتصباً..

 

* بين أصبعه والزنادْ

تستحيل البلادْ

ساعة.. للحدادْ

ساعة.. وتنام

*

 

* في الشعر القديم كان "الغزل" بضاعة رئيسية من بضائع الشاعر..

(حتى في قصائد المديح) ..

قال عمنا الضخم :

" إذا كان مدحٌ .. فالنسيب المُقدم "..

وفي ديوان خديجة كثير من الغزل إلا أنه تحول إلى غزل "نفسي" لا يُعنى،

قليلاً أو كثيراً، بالمفاتن الحسيّة:

* طلعت خديجة من تفاصيل الهواء.. فأشرقتْ

ونمت على يدها القُرى

ونما الهوى أبداً..

وما كذب الهوى..

كلا.. وما كذبت تراتيل الهوى.

 

* نعم.. إنه الحُبّ                                  

إني بذلت له ما يريد..

فحاربت باسمك..

ثم قتلت، باسمك..

لا تسأليني عن الذنبِ، مانحة الدربِ،

إنَّ القتيلَ قتيلٌ.. على الضفتين..

وإنَّ الشهيدَ شهيدُ

 

* وكان "الهجاء" ذخيرة رئيسية من ذخائر شاعرنا القديم..

وفي ديوان خديجة ــ صدقوا أو لا تصدقوا..! ــ الكثير من الهجاء الموجع.

ولكن لحظة.. لحظة..

إنه هجاء مختلف تماما..

* هنا هجاء مرير للمدن البائسة المكتظة حيث يدمي قلب الشاعر:

للشفةِ البرتقال..

وللجامعيةِ تخدم في البار..

للنادلِ المتردد خلف ابتسامته..

للمقابرِ مسكونةً..

للزحامِ الشديدِ..

 

قال أبو يارا:

لو كنت ناقداً قديماً لقلت:

ليتك قلت:

للمقابر مسكونة.. بالزحام الشديد

ولو قلتها.. لصدقت!

* وهنا هجاء لاذع للأنوثة التي استبيحت فيها كرامة الأنوثة:

حتى ابتساماتِ النساءِ المترفاتِ بغَيِّهنَّ..

وبوحهنَّ.. العاليَ الإيقاع..

ملّتْ ما لديكِ..

وما لديْ

قال أبو يارا:

نساء مترفات بالغَيْ؟!

وبوح عالي الإيقاع؟!

اذهب ــ يا محمد! ــ فأنت أهجى الشعراء المحدثين..!

* وهناك هذا الهجاء القاتل للشاعر الذي يطلّ على آلام البشرية من برجه الشعري:

أعرفُ كم حزنٍ يصهرُ هذي الأفواهَ الجائعةَ..

البسمة إذ تصبح بركانا..

أعرفُ..

لكني في الدورِ السابع..

 

قال أبو يارا:

أما أنا ففي الدور العاشر..!

*

وهناك في ديوان خديجة الكثير من "الحكمة"

هل تغيرت الحكمة الجديدة كثيراً عن الحكمة القديمة..؟!

أترك لكم الحكم:

 

 

* وماذا يظل من الشعر..

غير الجنون..؟

* في كل مكان

أسدٌ وجياعْ

*السهام كتابْ

والسلام كتابْ

والقصائدُ من عهد آدمَ..
والمائلاتُ الكعابْ..

رحم الله رهين المحبسين:

وهكذا كان أهل الأرض قد خلقوا
فلا يظن جهول أنهم فسدوا

*

وبعد..

لا أريد أن أتمادى أكثر من ذلك..

حتى "لا يفسِدُ الوعيُ..

ذوقَ المغنِّى"..

 

ومعنى هذه الجملة ــ في بطن الديوان..!

مرحى لك يا محمد:ـ

ومرحى "لخديجة" الجديدة القديمة..!


*نشر المقال في زاوية "صوت من الخليج" في المجلة العربية في السعودية إبان رئاسة الأستاذ الفاضل حمد القاضي.
ثم كان ضمن كتاب "صوت من الخليج" أحد مؤلفات الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي الغزيرة رحمة الله عليه.