جدل الحب مع «الحياة والكون والإنسان»

نافذة على الإبداع - بقلم  د. محمد صالح الشنطي

الشاعر محمد الحربي من شعراء الجيل الرائد للحداثة الشعرية الذين تشكلت في قصائدهم ملامح التجديد في الشعر العربي في المملكة العربية السعودية وقد أصدر عدة دواوين، له خصوصيته (رؤيةً وتشكيلاً) وقد اخترت أن ألقي نظرة خاطفة على بعض قصائد ديوانه (طفولة قلب) الذي صدرعام 2014 الذي يتضمن اثنتي عشرة قصيدة، عناوين أربعة منها ألفاظ مفردة : الحب، صور، خجل، الندى، وأربعة قصائد تتكوّن من مفردتين متضايفتين :مائدة الليل، انحناءة حب،التفاتة كرم، طفولة قلب (وهذه القصيدة يحمل الديوان عنوانها) فهي قصيدة مركزية، ثلاثة أخرى تحمل عناوين مزدوجة من لفظتين بينهما واو العطف، وقصيدة واحدة مكونة من جملت اسمية مبدوءة بلام الابتداء التي تفيد التوكيد.
ولذلك دلالاته، فالعناوين مداخل وعتبات تقودنا إلى ما ينطوي عليه النص من رؤى تفضي بها شبكة العلاقات داخله، من الواضح أن المفردة المحورية في قصائد الديوان (الحب)

وأغلب المفردات الأخرى تقع ضمن حقلها الدلالي :فقد تكررت لفظة الحب مرتين كأنت أولهما عنوان القصيدة الأولى ووردت معرفة مطلقة الدلالة فهي مصدر يدلّ على الحدث مجرداً من الزمان والمكان، أما المفردات الأخرى فهي الوشاح والخجل والجمال والألفة والالتفاتة والندى والقلب والطفولة، ومن الملاحظ أن أغلبها يدل على سمات أنثوية وجدانية، وتحتل الطفولة بما تمثّله من براءة وجمال المرتبة الثانية، وهذه علامة سيميائية تفضي إلى تشكيل رؤية الشاعر في الديوان؛ فالطفولة رمز البراءة والنقاء والشفافية، والقلب ينبوع المشاعر ومستقرّ الأحاسيس النبيلة والحب جوهرها.


تتشكّل البنية الرئيسة في الديوان من الكون والحياة والإنسان وشبكة العلاقات التي تنتظمها، هذا الثلاثي يرتكز عليه الوجود كما خلقه بارئه في بكارته الأولى، وقد بدت الشعريّة في جوهرها نسيجاً من هذه العناصر نظماً ومعجماً وأصواتاً، وصوراً وإيقاعاً وتراكيب احتشدت جميعها لتخفق بالحب وتداعياته، وهذا المؤشر السيميائي جاوز العتبة إلى المتن؛ فإذا كان القلب والطفولة قطبي الرحى فإن الجوارح كلها ظاهرة وباطنة تذوب وتفنى في بوتقة الحب، عالم الروح الذي امتشق منه الشاعر حسامه في منازلة نبيلة يقابله عالم الجوارح الذي يحتضن الروح وتنفسح فضاءاته لاستقبالها، ومن هذا التماس الحميم تتشكّل المشاهد والتجلّيات.
الطبيعة مادتها تصوغ من عجينتها كائناتها بشراً وشجراً وحجراً،تموج بهم ويذرعونها حركة وفعلاً في زمن وجوديّ مطلق في فضاء تجريدي تنطلق فيه الكلّيات يقيناً وصدقاً عبر ملكة الكتابة والإبداع :


“لَا يَعْرِفُ الْحُبُّ الْكِتَابَةَ/لَا الْقِرَاءَةَ/لَا الْيَسَارَ/وَلَا الْيَمِينْ”


شعور مطلق منعتق في زمن بكر (الطفولة) ومكان حميم (الوطن) في بوتقة (الفناء والتوحّد) يتسلّل من رحم الكائنات (الأشياء والأحياء) حشدا هائلاً من مفردات تتوزّع على حقول دلالية تتراسل وتتناسج في انهمار سخيّ، وفي تدفّق غزير وانسجام بهيّ وعفويّة باهرة، يأخذ بعضها بحُجُز بعض في شريط متّصل وعبر قاطرة من المشاهد والتجلّيات، حمولتها مفردة واحدة تتكرّر في كل المقاطع وهي الحب :
كوْنٌ يمتدّ على مدى النظر من الماء والبحر والغيم والجنان الخضر حيث العذوبة والنقاء والطّهر والعطاء والسخاء، ونعيم من الشجر والياسمين والثمروالنخل والعصافير والزينة: دائرة دلالية زاخرة بالعطاء وأفياء الجمال، وأخرى من الفن والإبداع: الغناء والبوح والموسيقى والشعر والنشيد، وحقل روحي شعائري: الاستعانة والاستغاثة والصلاة ثم الأنين والحزن، هذه التشكيلة التي تنهمر في فضاء الحب الذي يؤطّرها مفتتَحاً ومتناً وخاتمةً، يتكرر في كل مقطع ويحضر في كل مشهد:
“الْحُبُّ طِفْلٌ لَا تَمُرُّ بِهِ السِّنِينْ/الْحُبُّ أَوْطَانٌ لِأَهْلٍ طَيِّبِينْ/وَالُحُبُّ كُرْهُ الْغَاصِبِينْ./الْحُبُّ نَخْلُ اللهِ/رَاحَةُ كَادِحِينَ وَمُتْعَبِينْ”
بنية يسودها الاتساق والانسجام،تجمع بين التراكم والتنامي، تبدأ سرديّة فوصفيّة مشهديّة، فسلسلة من التجلّيات التي تضم الكائنات والكلمات والفنون والأكوان في بانوراما متناسقة الألوان تنتهى بشهادة وبوح واعتراف.
“آمَنْتُ../لَوْلَا الْحُبُّ،/مَا جَادَ الصَّبَاحُ بِوَجْهِ سَيِّدةِ الْحُضُورِ/وَمَا تَدَفَّقَتِ الْعُطُورْ


شَلَّالَ مُوسِيقَى وَشِعْرٍ/إِذْ جَلَسْتِ../َتَعْبُرِينْ..!”


إقرار يتمثل في الفعل الماضي (آمنت) يتلوه تقرير في (جملة الشرط: لولا الحب) ثم نفي متكرّر للشبهة، يلتقط المشهد، يرسمه في بورتريه متكامل الأوصاف كما رسخت في وجدانه ويستنسخها بفيض مشاعره منزاحاً بها عن المعتاد والمألوف (سيدة الحضور) فالانزياح عنها دلالي وتركيبي، ثم الصورة البيانية الاستعارية (شلال موسيقى وشعر ) حيث تزداد درجة (الانزياح التركيبي) وهذا منهج في التشكيل طبع أغلب قصائد الديوان وتشكلت شعريّته من خلاله، وهوما يتّسق مع ما أشار إليه صلاح فضل في كتابه عن الأساليب الشعرية المعاصرة، من حيث درجات النحويّة والإيقاع والكثافة والتشتت والتجريد، ووفقا لتصنيفه للأساليب إلى تعبيريّة وتجريديّة، وليس خافياً أن الأسلوب الحسّي الذي عدّه صلاح فضل أول الأساليب التعبيرية، حيث تزيد درجة (النحوية) أي الالتزام بالقواعد النحوية) ودرجة الإيقاع (الالتزام بالوزن) يتحقّق على نحوما في هذا الديوان ؛ ولكنني أرى أن هذه التقسيمات الحادة للأساليب تنمّط الشعر وتقوْلبه وتصادر خصوصيته، فشاعرنا يتجاوز ما عرف بالحسّية والحيويّة والدراميّة والرؤيويّة التي فرّعها فضل عن التعبيرية إلى نهج خاص (ولا يعني ذلك التجاوز) المفاضلة أوالتخطّي وإنما الخصوصيّة، اتخذ من مفردة (الحب) سبيلا إلى طرائق متعدّدة في التعبير تحمل خصوصية التجربة وتنهل من معينها.


وهكذا تنبني القصيدة على جملة من العلائق الوثيقة في سلسلة مترابطة من الحلقات في تدفق إيقاعي يتّسق مع تفعيلة بحر محكم الحركات والسكنات في متواليات تفعيلية على نسق منتظم :


تراسل الظواهر الكونيّة والإنسانيّة في المقطع الاستهلالي في سياق سردي، ثم رصد للحركة الموّارة بندولية الاتجاه متأرجحة بين الإقبال والإدبار في سياق وصفي، ثم الإطلالة في أعماق الذات الشاعرة في حركة مزدوجة بين القول والفعل، ثم النفي والإثبات في جدلية موّارة محورها الحب ومدخلها الحب ومنتهاها الحب.
ثم النغمة الشعائرية الروحية التي تقترن بالمعنى ذاتها مبنى ومعنى روحا وجسدا، فالحب يسكن الروح ويحدوها إلى محراب التبتّل والخشوع والدعاء، ثم تجلّيات الحب : في الأنوثة والطفولة والبراءة جنّة ودعاء، تكرار لتجليات الحب، حيث تتكاثف كل تلك الأمواج التعبيرية لتلتقي عند المحطة الأخيرة المقصودة هي (الآخر) المعشوق حد الفناء.
يمضي الشاعر في ديوان (طفولة قلب) فيرصد تداعيات الحب ويرسم لوحاته الحواريّة والوصفيّة والسرديّة والملحميّة في إطار الثالوث الذي جعله مجلىً لما في مسرحه الداخلي: الكون والحياة والبشر: إضمامة من المناجيات في باقة من الّلوحات والاعترافات، مفتاحها الرئيس مفردة واحدة هي (الحب)
في قصيدته (صور) تتماهى الطفولة والبراءة والجمال، البشر والحجر والشجر نسيج شعري شاهق يتوحّد في بوتقة الحب، ترصد مشاهدها عيون الشعر والشاعر فتتقاطر في عقد نظيم، وتفور اللغة بثرائها وظلالها وإيحاءاتها، حيث تنتظم في اقتناص تراكيبها للمشهد الطفولي في ذروة تجّلياته، مناجاة حميمة وتساؤل مدهش وحوار يضجّ بالعجب وتقاطع مع كل أساليب الكلام ومراقي الخيال، تنبع من شعريّة القصيد وجماليات القول، تقتنص بكارة الأشياء وتحتضن شفافية الروح، تتنامى المشاهد متدثّرة بشغاف الكلمات وتنداح في أفق الغناء لا أروع ولا أجمل ولا أبهى.


جدل الحب والأشياء التفاصيل اليومية والأوقات الحميمة والأكوان الكبرى والإنسان، والتداعيات المتدافعة تهطل من مخيال لا يكفّ عن النسج على منوال الوجود، تحرّكه الروح الممتلئة عشقاً، تتناسل الصور فتتراءى كالأحلام من خزّان لا ينفد، تهطل قطرات ضوْء وحبّات مطر وتتوالد أكواناً وأفلاكاً وأجراماً ترتسم في مرآة القصيدة، تلتقط شاعريّتها من ذرات الضوْء التي لا تكاد ترى من أمواج المحيطات وفيء الشجر، تتعالى على سطح الوجدانيّات الهلاميّة التي تمضي كالضباب، يستوقفها مشحونةً بغزارة ينبوعٍ يتدفّق بلا انقطاع، هو الحب الذي يتبتّل في محرابه ولا يكاد يبتعد عنه قيد فلتة لسان .. حب يسكن الكلمات ويتغلغل في شرايين الحروف ويسكن كل ظواهر الوجود، حب يفتح ذراعيه للأنوثة في ذروة تألّقها والطفولة في قمة براءتها، والأوطان في عز التوق إليها، يطوف بالحجاز وفلسطين والشام يحتضن المحرومين والمنكوبين والمسلوبين، يطير بأجنحة الحب ليحلّق في أقطار الأرض في كوريا واليابان، في الشرق وفي الغرب:


“َالرَّاوِي الكَاذِبُ نَتِنٌ /هَلْ يُعْقلُ أَنْ لا إِبْصَارَ سِوَى لِلصَّهْيُونِيِّ الأَعْمَى..؟!/قُولِي مِنْ أيْنَ أُعِيدُ لِجَدْولِ حُبٍّ بَعْضَ غِنَاءْ..؟!/قُولِي مِنْ أيْنْ..؟وَأنَا الصَّحْرَاءُ/أنَا ابْنُ الصَّحْرَاءْ./أعْطِي الْمَاءَ لِأَهْلِ الْمَاءْ..!”


حوار وفناء وتوحّد، ملامسة لصميم الجرح واختراق لسدف الظلم بحب يقطع مفازات الجفاف، ويتوحّد في فضاء الصحراء ليهطلَ غيمةً تمتح الماء لتسقى العطشى، صور مبتكرة ينجبها مخيال يمتح من قضاء بلا تخوم ويصوغها سبيكة تتألق وشاحا على متن القصيدة، ذلك هوالحب رفي هذه الصورة المتجاوزة للمألوف وإن بدت صريحة، يعطي الماء لأهل الماء، يمنح الحب لمن يستحق الحب.ويغدق الغناء ويعزف الألحان موقّعة على باقة تتعانق فيها الدلالة والأصوات والأوزان.
يلفتنا في ايماءة قصيرة ولكنها حادًة مشحوذة السنان، تقطع أنياط القلب النازف بالأحزان في قصيدته القصيرة (نساء) ينقلنا فيهامن أقصى محيط الحب النازف بالشوق والبراءة والحنان والانتماء للإنسان والأوطان إلى طرف قصي تذبل فيها (النون) الغنّاء التي صوّحت ورودها وتبعثرت على عتبات العمر، سكنتها الأوجاع والآلام وردة مضافة إلى باقة الحب والعرفان، ويترقرق نهر الشعر يتحدّر من نبع حنون معنىً وروحاً وجسددا ذابلاً في عدة مقطوعات تتعانق فيها الكلمات وأغصان اللغة متجاوزة تخوم التعبير إلى التشكيل، فتصبح اللغة بمفرداتها وصورها وصياغاتها جسدا أنثويا يتشكّل في وجدان الشاعر ويصوغ شعريته الخاصة في رحم القصيدة، تستغرقه نون النسوة فيبحر عبرها ليسائل ذاكرته ووجوده عن فيضٍ غمرها واستغرقها وجوداً وووجدانا عبر مجازات تلامس سقف الرمز وتطرق أبواب الحلم وتجترح الكلمات.:
“اجْلِسِي يَا شَقِيَّةْ/وَاخْلُطِي الْأَحْرَفَ الْعَالِيَاتِ بِرَأْسِيْ،/وَالْعبَي بِاللغَةْ/كَيْ تكُونَ الْقَصِيدَةُ /مَوَّالَ عَيْنَيْكِ/عَالِيَةً وَبَهِيَّةْ/.نَسَّقتْهَا يَدَاكْ.”
خطاب الآخر الأنثى عبر سلسلة من صيغ الطلب ممثّلة في أفعال الأمر معللّة مسببّة متلوة بالثناء الضمني عبر متواليات من النعوت : منظومة لغوية تجمع بين أفقية الصياغة ورأسية التشكيل، واللافت أن القصيدة واللغة تظل ماثلة في منحى تغريبي وفقا للشكلانيين تركّز على المبنى وتسخّره لإثراء المعنى.
(وعلى مائدة الليل) يتراءى الحب في نسغ الأزمان والأماكن والألوان، في شعاب التيه، وفي تفاصيل الروح والقلب والعيون، ويطير مع البلابل، يرحل مع المطر ويذوب في الألحان غناء تشدوبه الأكوان يغدوفيضا زاخرا وحراكا يسكن في الفؤاد.


تتشكل بنية القصيد عبر مقاطع تتناسل متداعية متدفقة من رحم الذاكرة ومن حضور اللحظة ومن عمق الوجدان، مشاهد تترى، وصور تتلاحق في تيار من التداعي الحر الذي لا تتقطع به سبل الترابط الوثيق إيقاعاً ودلالةً ومعجماً في دائرة من الاتّساق والانسجام، تمضي لمستقرٍ لها فتنضوعنها أردية الليل والريح والبحر وكل الأكون، حيث الحبيب التي تفرغ حمولتها بين يديه.


نسق من التعبير والتشكيل في معجم العشق الذي لا تنفد مفرداته ولا تسنفد أطيافه وألوانه، يتجاوز سطح الرومانسية ورخاوتها العاطفية ويبحر إلى محطات بكر ينيخ فيها ركاب الشعر، ولعل دراسة أوسع مجالا تجوس خلال هذا الفيض الزاخر من العطاء فتستخرج لآلئه وتستكشف عوالمه.

 


*نشر المقال في مجلة اليمامة 2020