الخاء: الخيرُ والخلودُ والسخاء!! (1)
ماذا ستخبرنا اليوم يا رسول الحبّ والسلام؟!
السلامُ، فالسلامُ خيرٌ وأمنٌ وحبٌّ وعطرٌ وفيضُ غمام، سأخبركِ يا خجولة العينين كثيراً مما يدور في خلدي هذه الأيام، فقد خطر في بالي في خضمّ هذه الأحداث الخطيرة المؤلمة من حولنا، أن آخذكِ معي في رحلة إلى حقول الخاء، حقول الخوخ والمشمش والرمان والخيزران، ومن خلفها زرقة السماء وخيول السحاب الكريمة النبيلة، وأن نجلس على الكرسي الخشبي نتأمل التمازج الخلاب، والألوان الباذخة، وما يزرعُ فينا خمائل الأسئلةِ والمعرفة، فهل تعلمين بأن قبيلة الخيزران وحدها تتشكل من خمسمائة نوع عبر العالم، ذلك من خبء السماء ومن خبْء الأرض؟
وأعلم أنه لا يغيب عنك أن للخشب قصصاً وروايات لحضارات خلاّقة خالدة، جادت عقولُ أهلها بالإبداع والخير، أما نحن اليوم فقد تخشّبت عقول كثير من أهلنا عبر الأوطان، ونخرها سوس الأدلجة السوداء، فسُيّرت بالتحكم عن بعد، ورضخت للغريب البعيد الآمر المتآمر وخضعت له فانسلخت عن هويتها، وسُخّرت للهدمِ فتخلت عن التفكير الموجبِ البنّاء، رغم أنها من أمة بناء منذ بدء التاريخ، ومذ بنى سيدنا إبراهيم الخليل وابنه البيت.
أأصابكِ الملل والخمول يا حليفة الألوان والحروف؟!
هل تريدين أن نعود عبر الزمن لنستعيد رحلة نبينا موسى عليه السلام بحثاً عن الخضر، وقصتهما مع السفينة وخرقها، والغلام والخشية من ضلاله، والكنز المخبأ تحت الجدار، وما تخطّهُ من حكَمٍ وأفكارٍ نيّرةٍ خيّرةٍ راسخةٍ لا تتغير، كما لا يتغير الخَلقُ في خطوهم بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والخير والشرّ عبر التاريخ، فظلوا يحتاجون إلى من يذكرهم ويهديهم وصولاً إلى خير البريّة، خاتم الأنبياء، النبي العربي الأمين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
أمْ ترين أنْ نسافر على صهوةِ الخيالِ يا رفيقة الخيالِ، إلى الخليج وغربة السيّاب والنخيل والمجداف والقمر واللؤلؤ والمحار، والطيور القادمة من الضفاف الأخرى، من ديارٍ تختلط فيها الخرافة بالحكمةِ والشعر:
أصيح بالخليج: «يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ، والمحار، والردى!»
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّه النشيجْ:
«يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى..»
إنّ هذا البوح الروحيّ الخالص يأخذنا إلى الشعر والتاريخ والخلود، وهو ما كنت أريد توجيه دفة الخطاب إليه، فالرغبةُ في الخلود أخرجت الإنسان من جنة الخلد عبر خطةٍ شيطانيةٍ محكمة قادت إلى أول خطا وخطيئة يرتكبها الإنسان، والعودة إليها سعي المؤمنين بالخير، ومخافة الآخرة. أما الخلود بالذكر وبالعطرِ فمطلب الشعراء منذ تفتّح براعم الكلام بورود الشعر وزنابقه، يقول البردوني:
أحيا مع الشعر يشدو بي وأنشدُهُ
والخلدُ غاياتُه القصوى وغاياتي
وهو ما ردده بطرقٍ وأساليب مختلفة، وأراده المتنبي طيلة حياته:
أريدُ من زمني ذا أنْ يبلّغني
ما ليس يبلغهُ من نفسِهِ الزمنُ
فليس الشاعر وحده الذي يطلب الخلود فحسب، بل الشعر نفسه، وهناك شعر خلدَ لا نعرف قائله، وهناك شعرٌ اختلفوا في نسبته فنال مجده أكثر من شاعر، والحقيقة أن الشعر يُدوّن ويخلد كلّ شيء، التاريخ والجغرافيا والكائنات، كالخيل العربية الأصيلة النبيلة المعقود بنواصيها الخير.
فما الذي يخلدها في ذاكرتنا كقيمة حضارية ومعنوية وجمالية، بعد أن اختُصِر حضورها في القيمة المادية غير الشعر، والفن؟!
لقد خلدها الإعجاز القرآني كما في سورة العاديات في أبدع تصويرٍ للخيل وساحة الوغى، وذلك موضوع آخر خاص. كما خلدها الشعر العربي، فنحن لا ننسى مثلاً حركة وخفة وسرعة واندفاع جواد امرئ القيس:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ من علِ
ولا الأدهم جواد عنترة العبسي:
يَدْعُونَ عَنْتَرَ والرِّماحُ كأَنَّها
أشْطَانُ بِئْرٍ في لَبانِ الأَدْهَمِ
مازِلْتُ أَرْمِيهُمْ بِثُغْرَةِ نَحْرِهِ
ولِبانِهِ حَتَّى تَسَرْبَلَ بِالدَّمِ
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلِبانِهِ
وشَكَا إِلَىَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
لو كانَ يَدْرِي مَا المُحاوَرَةُ اشْتَكَى
وَلَكانَ لو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِي
كما أننا لا ننسى عيوناً كعيون خيلِ المتنبي، في رائعته كفى بكَ داءً أنْ ترى الموتَ شافيا وحسب المنايا أنْ يكنّ أمانيا:
وَتَنظُرُ من سُودٍ صَوَادِقَ في الدجى
يَرَينَ بَعيداتِ الشّخُوصِ كما هِيَا
يا للمخيلةِ الخصبة لديهم، والنسج الشعري الفاخر الذي لا مثيل له من قبلُ، ولا من بعد في مختلف الحضارات.
أفلا يحقّ لنا مع كل هذا الجمال أنْ نختال بشعرنا ولغتنا العالية الفخمة الخالدة؟!