كلما استمعت إلى المتنبي استمتعت وطربت ووقفت صارخاً في أعماق نفسي: رحمك الله يا كوفيّ يا عربيّ يا عملاق، يا أستاذ الأساتذة.
وخمّنت أن وضعه لكافور في منزلة الأستاذية ليكون أستاذ الأستاذ في الشعر والبيان.
والمتنبي يقرأ عليَّ قصائده كل يومٍ تقريباً، ويحيلني إلى أبياته كلّما غصّت النفس، وغلى الدّم في العروق، وغالب الدمع ادعاءات القوة.. كلّما تذكّرنا الأوطان، وذلك كل حينٍ مع كل دفقة للخافق الموجوع المصدوم المكلوم.
ومن فيض كرمه أنه غالباً ما يكرم مبدعي الشعر، أصدقاءه، وأحبابه بأبياته كلما التقينا على حافّة النهر: نهر الحياة والشعر والأمل.
ومن بين القصائد الأقرب للنفس عظيمته «كفى بك داءً» وكنت نشرتها أواسط الثمانينات الميلادية قاصداً تقريبها للمبدعين الجدد، والمتنبي جديدٌ حيٌّ بفنه بيننا، أسأله كلما نادمته: ما الذي تغيّر؟!
فيجيبني: «قتل الإنسان ما أكفره».
ومن بين ما يطربني من أعمال نادرة أبياتها مموّلة بصوتٍ الفنان فؤاد سالم.
وبالأمس القريب أهداني الشاعر المقبل على النقاء والبياض عبد الله الوشمي، ورفيقه الذي أراد أن يُبقي حضوره مفاجأة أو موعداً نسخة من أشعار المتنبي بإلقاء الفنان عبد المجيد مجذوب، وتقع في ستة أجزاء، صدرت ضمن سلسلة «الكتاب المسموع» عن المجمع الثقافي أبو ظبي.
المهم إنني قد استمعت واستمتعت بدور المتنبي ولا أريد من أحدٍ أن يفسد عليّ تلك البهجة، أو هذه البهجة المستديمة.. وقد خطر لي أنك لكي تصل إلى هذا المقام ينبغي أن يكون لديك حسٌّ تاريخي ومسرحيّ، وأن تحسن التخيّل، وأن تكون في البدء محباً بشكل عام، ثم محباً للعربية والشعر لا حاملاً فأساً لتحطيمها، أو تفجيرها، وأن تكون دافئاً لا بارداً، بل عليك أن تكون متوقّداً، كريماً، علياً.
فلا يتأتى للبخلاء ولا الباردين، ولا الموتى، ولا أصحاب العيون المنطفئة، ولا مدعي الثقافة، ولا تجار الكتب والكلمات والشعارات، ولا من يخونون أمتهم وأوطانهم قراءة المتنبي:
ولكي تعرف المتنبي ينبغي أن تكون مبدعاً عميقاً، لمّاحاً، جريئاً لا محايداً.
ولكي تسمع وتستمتع ينبغي أن تكون محباً للإيقاع مغرماً بالنغم والتناغم.
كما ينبغي أن تكون محبّاً للشعر الذي هو شعر، لا نصف شعر، ولا ربع شعر، ولا نثر شعر.
ومعظم كارهي المتنبي: أدباء تافهون، وحمقى مغفلون، وشعوبيون مارقون.
ولكي لا أفسد الجوّ على المتنبي بهؤلاء، ومن هم على شاكلتهم أقول إنني استمعت أول ما استمعت إلى " كفى بك داء " وفي مطلعها ما لا طاقة لنا به.
كفى بك داء أنْ ترى الموتَ شافياً/وحسبُ المنايا أنْ يكنَّ أمانيا. تمنيتها لما تمنّيت أن ترى/ صديقاً فأعيا أوْ عدوّاً مداجياً. إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ/ فلا تستعدنّ الحسام اليمانيا.
يعترف الناس بعظمة شعر المتنبي، شاعر كل زمان، وهم الذين يسهرون جرّاه ويختصمون. ولكنهم أو بعضهم يستكثرون عليه جموحه وطموحه، ورغباته الموازية لشعره، ومنها الجاه والسلطة.
وأتساءل: ألا يستحق من ملك بيوت الشعر أن يملك بيتاً، ومن حكم اللغة والقصيد، أن يحكم قضاءً.. أو فضاءً؟!
وهم يعيبون على المتنبي أناه العالية، أو نرجسيته الفائضة، وأنا أرى فيها عظَمَةً ترفع مقام الشعر لديه، وتوصل القصيدة إلى أعلى مدىً يمكن أن تصل إليه، وتصبو له النفس البشرية المغامرة المقبلة على الرفعة، المتطلعة إلى البعيد البعيد.
ألا يجرفنا هذا البيت معه كل قراءة:
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي/ أنا الثريـا، وذان الشيـبُ والهرمُ
إن جلّ ما نراه عيباً في المتنبي، هو في داخلنا بشكل أو بآخر، ولعل مشكلة المتنبي أنه صرّح بهذا الزهو، وتلك النرجسية، بينما بطّنها الآخرون.
هذه النرجسية، وهذا السعي للكمال، وهذا البحث عن الجنة هو هو عند كل الشعراء الكبار، والكبار في كل فرعٍ من فروع الإبداع والعطاء.
وإذا ما وضعنا روح المتنبي المغامرة، مع روح سيف الدولة المقاتلة، أمكننا فهم نشوة الانتصار الأولى عندما كان معه، ثم ردة الانكسار عندما فارقهُ مُجْبراً، ورحل ميمّماً مصر، معزياً نفسه بأن الراحل هو الأمير:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا
أن لا تـفارقهم فالراحلـون همُ
ومن بخل الحمداني وكافور كما يرى يخرج كرم المتنبي، ويجود علينا بشعرٍ باقٍ وجديد، قاسٍ وموحش وشفاف في آن.
فيه من النرجسية، ما فيه من الانكسار..
وفيه من عظمة الشعر وصعوبته، ما فيه من سلاسته وانثيالاته:
وأعلم أنّ البينَ يشكيك بعدهُ/ فلست فؤادي إنْ رأيتك شاكيا. فإن دموع العين غدرٌ بربِّها/ إذا كنّ إثْر الغادرين جواريا. إذا الجود لم يرزَقْ خلاصاً من الأذى/ فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقيا. وللنفس أخلاقٌ تدلُّ على الفتى/ أكان سخاءً ما أتى أمْ تساخيا. أقلّ اشتياقاً أيها القلبُ إنني/ رأيتك تصفي الودّ من ليس صافيا. خُلِقْتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا/ لفارقتُ شيبي موجَعَ القلب باكيا!!
ومن سخاء المتنبي وجوده حينما بخل أو تساخى غيره، هذا الجود الشعري على الجياد:
وجُرْداً مددْنا بين آذانها القنا/ فبتْنَ خفافاً يتّبعن العواليا. تماشى بأيدٍ كلما وافت الصفا/ نقشن به صدر البزاةِ حوافيا. وتنظر من سودٍ صوادِقَ في الدّجى/ يرينَ بعيداتِ الشخوصِ كما هيا. وتنِصب للجرسِ الخفيِّ سوامعاً/
يخلْنَ مناجاةَ الضميرِ تنادِيا. تُجاذبُ فرسان الصباحِ أعنةً/ كأنّ على الأعناقِ منها أفاعيا. بعزمٍ يسيرُ الجسم في السرج راكباً/ بهِ ويَسيرُ القلبُ في الجسمِ ماشيا.
ولو كان كافور بكرم المتنبي لكفاه هذا البيت:
يبيـــــدُ عداوات البغاةِ بلطفِهِ/ فإن لم تَبِدْ منهم أبادَ الأعاديا
ولو تركت لي حرية التخيل، وهي كذلك، لرأيته متواضعاً مع الناس، متعالياً بشعره مع الكبار، والبخلاء.. كريماً مع الخيل، واللغة، والسيوف والرماح.
وقبل ذلك شجاعاً وجريئاً في إبداء مكنوناته، وتقلباته النفسية، واحتياجاته الجموحة...
عظيماً في شعره، وعظيماً في إثارة الدهشة والأسئلة، ومثله أمنحه نهراً، وصفحة ماء لينظر إلى نفسه متى شاء، كيفما شاء!!
أما الداء فهو عودة الاستعمار القديم شكلاً ومضموناً، على الأرض، وفي البنوك، والعقول.
على الورق، وعلى الشاشات، وعلى الألسنة.
وبالتالي تناقص الأرض العربية والإسلامية الحرة، وتناقص العقول الحرة، والأقلام الحرة.
وأما البخل فهو بخل القادرين على الفعل والعطاء.
وأما السخاء فهو سخاء المحافظين على مثلهم ومواقفهم وإيمانهم النقي حينما ميزوا بين الإيمان والإسلام، واختاروا ما أمر الله به، وسخاء المحافظين على شرفهم وأقلامهم، وسخاء المحبين لأوطانهم.
وسخاء المائلين عن طريق التيارات البراقة الجارفة التي طغت وطفت على كل شيء، تلك التي تريد أن تطعم الناس " الهامبرجر والبيتزا"، وتعلمهم أسس التعاملات البنكية الدولية، وأزرار الكمبيوتر قبل أن تعلمهم أن حب الوطن والذود عن حياضه من الإيمان، وأن التفريط بالأرض ومقدرات الأمة، فكرها، وقيمها كالتفريط بالعرض والنفس، كقتل النفس التي حرم الله ملايين المرات.
وأن لا صوت ولا نقود ولا بيتزا لمن لا وطن له.
لمن لا قيم له.
لمن لا جدار يدافع عنه.
سخاؤهم بكل ما يستطيعون حتى الصمت عن الخوض فيما يدينهم ساعة الضعف أو ساعة الشدة.
الصمت عن المشاركة في هذا الذي يجري ضد كل ما قيمة، وضد كل ما هو عربي ومسلم وتقودهُ إسرائيل وتتبعها أمريكا، ويتبعهما التابعون..
أما التساخي فهو ما يزبد به أدعياء الثقافة كل يوم في لهاثهم نحو أمريكا مستسلمين لبريق الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيل من الكلام التافه الذي إن كان من فيه من الحقيقة ولو جزءاً يسيراً فإنما يراد به الباطل كله لا باطل محددا بعينه، وهمْ همٌّ أصبح الناس، حتى البسطاء منهم يعرفونه جيداً، فيحذرونهم ويحذرون حلاوة ألسنتهم، ويمجّون تخاذلهم، حتى أصبحوا يعرفونهم بسيماهم من أثر القعود، ويعرفون أعينهم الماكرة، وابتساماتهم الصفراء، وحركاتهم التي تدل على المراوغة والزيف والهروب من حقيقة لا مفرّ منها لو يعلمون.. أو همْ يعلمون.
إذاً فعلاً إنّ: للنفس عادات تدل على الفتى/ أكان سخاءً ما أتى أم تساخياً.
وفعلاً إن المتنبي شاعر عظيم ولو كره الكارهون.
فمن منا لا يصيح اليوم:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً/ وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا. تمنيـتـها لما تمنيت أن ترى/ صديقاً فأعيا أوْ عدواً مداجيا
وهو يقول ما يقول لا لتمني الموت الرخيص، ولكن لوصف استفحال الداء.
لأنه:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ
فلا تستعدنّ الحســــام اليمانيا
ونحن نصرّح بدائنا وأوجاعنا ونصيح معه لا رغبة في الموت بل رغبة في الحياة..
ولكنها حياة المجد والعزة، حياةٌ نصرِفها على تهذيب أنفسنا لتكون صالحةً للأوطان، أو لاستعادة المسلوب منها..
حياة نُرممها لتكون لائقة بأطفالنا وعيون أحبابنا.
حياة لا نرميها تحت أحذية أعدائنا، ولا ترمينا في مستنقعاتهم.
وإذا كان علينا أن نترحّل كما فعل المتنبي فلا بأس، ولكن لتكن الرحلة في أنفسنا وذواتنا، وفي صرحنا الذي يهدّمونه ويحرقونه ولكنه باقٍ لا يزول.. لأنه هنا في القلوب والضمائر.
ذلكم الصرح هو صرح الحضارة العربية الإسلامية، وهو باقٍ لأن لا إله إلا الله، ولأنه سيحميه بحوله، ولأننا سنكرسه بكل معانيه السامية في عيون وقلوب الأهل والناس، والقادمين على أجنحة الطفولة لمستقبل سنذود عنه بلغتنا وفكرنا وإبداعنا، وتشبثنا بهويتنا، مهما غزانا الغزاة، وتعددت الحروب وتنوعت، لأننا ببساطة أصحاب حق وخير وحب وجمال وسلام
وسنرويه بدمائنا، وسيروون قصصه لأحفادهم، أحفاد الروح العربية الإسلامية البانية، الزاهية، الداعية للسلم والسلام.. والمقاتلة.
وكفى بنا عزّةً أن نرى الصرح باقيا في لغتنا وفكرنا وإبداعنا وعنادنا.