الوقت (3)

أما عن تدوين الوقتِ، ورسمهِ، والإمساكِ بهِ كطائرٍ أو وردةٍ أو أثَرٍ،  في عملٍ إبداعيٍّ، ثم تركهِ لدورتهِ، أو في حالِه، فذلك أحد أسرار الكتابة، وهو حال الأدباء عبر العصور، حتى كأنه همهم الأول والأخير، فمهمتهم التدوين، أو اختصار الأحداث، أو تكثيف الكتابة.. ويندر أن تخلو قصيدة من ليلٍ أو نهار، فجرٍ أو صبحٍ أو مغيب.. وأسئلةٍ فيهِ وعنه، يندر أن تخلو من الوقت، وأثر الوقت..!

فمن المهم لديهم وصف اللقاء والفِراق، المقام والرحيل، العمر وسنيِّ العمر.. الميلاد والموت..

الزمن هو سر الشعراء، حبيبهم وعدوهم في آن:

فِنْجَانُ الْقَهْوَةِ، وَالألْوَانُ، وَكُوبُ الْمَاءْ.

وَالسَّاعَةُ نِصْفُ الْوَقْتِ،

النِّصْفُ الْآخَرُ أَحْرَقهُ المَعْنَىْ.

وَالْقَلْبُ الْمُتْعَبُ وَالْمِينَاءْ.

مَتْحَفُ أَصْدَافٍ لِلْغُرَبَاءْ.

وقد يكون الوقت مخيفاً وموجعاً حد البكاء،.. لأننا قد نتحمل الألم، لكننا لا نتحمل القلق والخوف من الأسئلةِ التي يثيرها التعب والمرض، خوف اللحظة والحالةِ، والخوف من المجهول، والخوف من الانكسارِ والهزيمةِ قبل الوصول، وفي نفس الوقت ذلك التشبث العجيب بالأمل، والذي لا يغدو عجيباً مع الإيمان، والدعاء لمن يجيب:

أَجْلِسُ كَالْعَادَةِ فَوقَ نُعُومَةِ

سَجَّادةِ عُمْرٍ زَاهِيَةٍ

للنّاعِمِ في الشِّعْرِ،

وفِي الْحُبِّ،

الْعَالِمِ بالأسْرَارِ عَلَى خَجَلٍ..

والْعَالَمُ أَحْلَكُ مِنْ وَجْهِ عَدُوٍّ

وَالْوَقْتُ مُخِيفٌ

وَالسَّاعَةُ..

صَوْتُ السَّاعَةِ يَزْدَادُ عُلُوَّا

وَالْأَنْفَاسُ،

وَدَقَّاتُ الْقَلْبِ كَذُعْرِ السَّاعَةِ

والْعَرَقُ يَنِزُّ،

الرَّعْشَةُ..

تِلْكَ الْمَلْعُونَةُ إِيَّاهَا

تَسْكُنُ جِسْمِي 

إِذْ تَهْتَزُّ كَرَاقِصَةٍ

أُمْسِكُني،

أَتَلَفَّتُ حَوْلِي

لَا أَحَدٌ..

وَالْغُرَفَةُ،

غُرْفَةُ نَوْمِي

وَالْجُدْرَانُ

اللوْحَاتِ

الشَّاشَةُ

كُلُّ الأشْيَاءِ تَنُوءُ

فأَغْرَقُ وَحْدِيْ..

لا أَحْبَابَ،

وَلَا أَصْحَابَ

سِوَى الليْلِ،

السَّاعَةِ،

والْوَحْدَةِ،

وَالْأَبْوَابْ.

وقد يجدُ في الكتابةِ والكتابِ السكينةَ والدواء، ولطالما عالجتُ بالكتابةِ روحي، كما عالجتُ غيري، وجميلٌ ونبيلٌ أن يعالجَ المتعبُ المتعبين:

أَفْتَحُ عَيْنَيَّ عَلَى صَوْتِ أَذَانِ الْفَجْرِ

أُصَلِّي

يَرْفَعُنِيْ نُورٌ

يَمْسَحُ فَوْقَ جَبِينِيْ

ثمَّ يعودُ لِيخفِضَنِي بحِنٍّوٍّ

يُرْجِعُنِي لِلشُّبَّاكِ وَقَدْ غَطَّاهُ الضَّوْءُ

فأّفْتَحُ عَيْنَيَّ عَلَى الدُّنْيَا

أَتَحَسَّسُ جِسْمِيْ

لا رَجْفَةَ

قَدْ ذَهَبَ الذُّعْرُ الأعْمَى

أَفْتَحُ كُلَّ الْأَبْوَابِ

وَأَغْفُو كَالطِّفْل                                                                                        

فَلَا خَوْفَ لَدَيَّ،

دَعَاني الشِّعْرُ..

وَبَيْنَ يَدَيَّ كِتَابْ.

هو الوقت إذا بليله المخيف الثقيل..  وساعاته العقارب..!


ألا يستدعي هذا الليلُ الحديثُ ليلَ امرئِ القيسِ الجاهليَّ القديم..؟

أليس الوقت هو الوقت بحركتهِ، خفتِه وسرعته، أو ثقلهِ وبطئهِ وطوله على روح الإنسان، والإنسان هو الإنسان بروحه وطموحه وقوته وانتصاره، وهمومه وتعبه ومرضه وانكساره، ونزاعه مع نفسه قبل الآخرين في كل ذلك، عبر الأزمان:

وليلٍ كموجِ البحرِ أرْخَى سُدُولَهُ     عَلَيَّ بأنواعِ الهُمُومِ ليَبْــــــتَلِي

فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَــــــــطَّى بصُلبِهِ      وأردفَ أَعْجَازاً وناءَ بكَلْكَـــــلِ

ألا أيُّها الليلُ الطّويلُ ألا انْجَلِي      بصُبْحٍ وما الإِصْبَاحُ مِنْكَ بأَمْثَلِ

فيــــــا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجومَهُ      بكلِّ مغارِ الفتلِ شُــــــدَّتْ بيَذْبُلِ

كأنَّ الثريَّا عُلِّقَتْ في مصَامِها        بأمْرَاسِ كتَّـــانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ

لعله يستدعيه، لكنه لا يحاكيه، وصبحُ امرئِ القيسِ في النهايةِ ليس بأفضل من ليله..!

وقد شدَّ انتباهي جمال هذا الخيال الذي يرى النجوم والثريا وقد شُدَّت بالحبالِ إلى الجبالِ فلا يمكنها الحراك، وكيف استطاع هذا الليل بهمومه الثقال أن يلهم الشاعر فيبدع هذا الشعر الخالد!                                                                                                            

وفي نهايةِ الأمر، فإنه مهما تقدم بنا الوقت، وتقدمت الحياة وتطورت وتغيرت، فسيظلُّ الإنسان الفاني الضعيفُ محاصراً بالوقت العنيفِ المخيفِ في سعيه وعمله، في ركضه الدائم ولهاثه خلف أمرٍ ما، صغر أم كبر، قوتَ يومِهِ أم مجداً يخلد ويدوم من بعده.

وهو من جهةٍ أخرى محاصرٌ بالوقت عاطلاً بلا عمل، أو سجيناً بلا حولٍ ولا قوةٍ إنساناً كان أم دولةً عظمى، كما حصل مع العالم مع كورونا.

ويسعى الإنسان لكي يعيش بسعادة، أو في الأقل لكي يخفف من قسوة الانشغال والأعمال والركض خلف الرزق والمال، أو قسوة العطالةِ والبطالةِ والفراغ والملل والكآبة، للتعامل مع متغيرات الوقت والزمن، ويكتشف أنه لا بد من أن يتمرد على نفسه، وأن يحاصر الوقت الذي يحاصره في ركضهِ داخل عجلةِ الحياة السريعة..!

لقد توقفت أعمالي مع كورونا تماماً منذ مايو 2020، لا عملي العام فحسب، بل وعملي الخاص أيضاً: مكتبي ومجلتي، لكنني رغم الشعور بالإحباط المرير، والقلق من المقبل، فيما الوقت يحاصرني، لم أتوقف أبداً، فقد سعيت لإنجاز أعمالي الشعرية، فأصدرت "عطر الناس"، ومجلد "الأعمال الشعرية"، و"حاربتُ بالحب" وكان لهذا الجهد الكبير دفعات معنوية أكبر، تشعرك على الأقل أنك حَيٌّ، وأن لديك ما تعطيه وتهديه للناس وللوطن رغم أنك عملياً لا تملكُ شيئاً، وأنَّ عليك أن تواصلَ حياتك.. نضالك وعنادك، وأن تهمسَ في أذنك كلما تراخيت أنك قادر على ذلك.

وتوقف العمل هذا تكرر في حياتي كثيراً، صاحبه الإحباط والكآبة، والقلق والمرارة، سواءً أكان بسبب ظلم الأعداءِ، وهم كثر، أو بسبب ظلمي لنفسي، ولكنني كنتُ أنتصر في النهايةِ بفضل إيماني العميق بأن ما كُتب لي سيأتيني ولو بعد حين، وما لم يُكتَبْ لي لن يكونَ لي أبداً، ثم بفضل إصراري وعدم استسلامي، وقناعتي بأنني سأكون يوماً ما أريد، وثقتي بقدرتي وموهبتي، وقد وضعت أهدافي أمامي، وسعيت بعد أن فوضتُ أمري، كلَّ أمري لله وتوكلت عليه.

والوقتُ وقد نضجتُ ونضج، وصقلني بالحكمةِ عبر التجارب والصبر على النوائب، علمني الشكرَ لا الكفر، فكنتُ حامِداً شكوراً.