السيدة شين

شجرةُ الحروف (2)

أما الشين لدى بشار بن برد، فحكمةٌ وحربٌ وشجاعةٌ:

إذا كنت في كلّ الأمورِ معاتباً

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ

فعش واحداً أو صِلْ أخاك فإنه

مقارف ذنبٍ مرة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

إذا الملكُ الجبارُ صعّر خدَّهُ

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى

وبالشوك، والخطيّ حمرٌ ثعالبه

غدونا له والشمس في خدرِ أمِّها

تطالعنا والطلّ لم يجرِ ذائبه

كأن مثارَ النقعِ فوق رؤوسِنا

وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبُه

وليس ببعيد عنهم الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته:

مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمْشِي

وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الثَّنَاءُ

أَيُّمَا خُطَّةٍ أَرَدْتُمْ فَأَدُّوهَا

إِلَيْنَا تُشْفَى بِهَا الأَمْلاءُ

إِنْ نَبَشْتُمْ مَا بَيْنَ مِلْحَةَ فَالصَّاقِبِ

فِيهِ الأَمْوَاتُ وَالأَحْيَاءُ

أَوْ نَقَشْتُمْ فالنَّقْشُ يَجْشِمُهُ النَّاسُ

وَفِيهِ الإِسْقَامُ وَالإِبْرَاءُ

والشين في الشغف، والشوق، ونحن نشعر بحرارته ولوعته في رائية أبي فراس الحمداني الشهيرة، والتي شدت بها كوكب الشرق فأشاعتها بين الناس على مختلف مشاربهم:

أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ،

أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ،

ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ!

أمّا أميرُ الشعراء أحمد شوقي، كما يحب أن يسميَه أهلُنا في مصر، وهم يطلقون الأمير على الخلوق اللطيف حتى في شعبيّهم، فهو عاشق للشعر والشجر مثل سائر الشعراء، وهنا مما قال في النخلة الباسقة، وأنشدناه صغاراً، حيث تتألق الشين، وتعلو كما تعلو:

أرى شجراً في السماء احتجبْ

وشقّ العنان بمرأى عجَب

مآذنُ قامت هنا أو هناكَ

ظواهرها درجٌ من شذب

وباسقةٍ من بناتِ الرمالِ

نَمتْ ورَبتْ في ظلالِ الكُثُب

تُخالُ إذا اتَّقدَتْ في الضُّحَى

وجرَّ الأصيلُ عليها اللهب

وطافَ عليها شعاع النهارِ

من الصحوِ، أو منْ حواشي السحب

قد اعتصبتْ بفصوص العقيقِ

مُفصَّلةً بِشُذورِ الذهب

وناطتْ قلائدَ مَرْجانِها

على الصدر، واتَّشَحَتْ بالقَصَب

وشَدَّتْ على ساقِها مِئْزَراً

تعقَّدَ من رأسها للذنب

وأعجبُ: كيف طوى ذكركنَّ

ولم يحتفلْ شعراءُ العرب؟!

ونجدها كذلك متجليةً في الشعر الحديث لدى بدر شاكر السياب، الذي أسسه مع رفاقه وكرّسه، وحفر اسمه في ذاكرة الشعر بشناشيل ابنة الجلبي و «شبّاكُ وفيقة»، والمخبر، وحفار القبور، وأنشودة المطر، وعيناها الشرفتان اللتان راح ينأى عنهما القمر.

ومحمود درويش الذي أعاد للشعر رونقه، وأجراه على ألسنة الناس، بمواقفه وموهبته وغزارة إنتاجه وأناشيده التي حفظها وغناها الناس ودونها التاريخ، وباتت شهرته بيننا حتى اليوم كشهرة المتنبي في عصره، مما ساعد على نشر قضيته الفلسطينية، ومأساة وحقوق شعبه في فلسطين والشتات، اللهم شتت شمل من هجّرهم وشتتهم، وهو لم يغفل الشهداء فكان لهم نصيبٌ كبيرٌ من شعره، وليس بأولهم ماجد أبو شرارة. وأمتنا أمة عزة وشهادة، وقد تكالبت الأمم علينا فأصبحنا كلنا مشاريع شهادة، فالتآمر على أوطاننا لا يتوقف، والعنف لا يهدأ شرره، ونحن لا نتوقف عن الاستنكار والشجب، فما لا يحققه الأعداءُ يقوم به جهلة الأمة نيابةً عنهم مع تفشي الجهل والحقد والسواد، والشره الأعمى للمال والشهوة والشهرة ولو على حساب الأبرياء، حتى أصبحت السلطة والتحكم في خلق الله ومستقبلهم شأن كل شخص في هذه الجماعات والعصابات المسلحة، وهم أقرب إلى شفا جرفٍ هارٍ منهم إليها.

ولندع الجهل والجهلاء، ونبحر في شموس المعارف، فالمعارف شمس العقول، ولولا الشمس ما كانت الحياة، ولا أنبت العشب، وأثمر الزرع، وللزرع مشاتل، ولألوانه النحل، ومن النحل الشهد، وفي الشهد شفاء، ولولا الماء ما اشتعلت الأرض بألوان النبات، وللماء أنهار وشلالات، وهي تنساب كذلك في الضوء والشعر والموسيقى كما هي هنا:

« آمنتُ..

لولا الحبّ

ما جادَ الصباحُ بوجهِ سيدةِ الحضور

وما تدفّقت العطورْ

شلالَ موسيقى وشِعرٍ

إذْ جلستِ..

وتعبرينْ.!!»*

والشين في الأماكن والجهات الشمال والشرق، الشام وشبوة وشبام من الشمال للجنوب، والشارقة وطشقند وشيراز وإشبيلية ولشبونة من الشرق للغرب.. وهي في الأنفاس الشهيق، وفي الجبال والعلو الشامخ والشاهق، وهي في الشيم، ويرى المتنبي أن الظلم من شيم النفوس، كذلك الشح والجشع، وهي في الشرف الذي يرى أنه لا يسلم من الأذى إلا بإراقة الدماء، كما يرى أنّ شبهَ الشيءِ منجذبٌ إليهِ:

وشِبْهُ الشيءِ مُنجَذِبٌ إلَيْهِ

وأشْبَهُنَا بدُنْيانا الطَّغامُ

ولَوْ لم يَعْلُ إلاّ ذو مَحَلٍّ

تَعالى الجَيْشُ وانحَطّ القَتَامُ

إذا كانَ الشّبابُ السُّكرَ والشّيْبُ

هَمّاً فالحَياةُ هيَ الحِمامُ

***

* للشاعر صاحب المقال.