كنا نقطع الفيافي بالصبر والقوافي، ونعبر البيد التي دونها بيد، ونهتدي في التيه، ونردُ الماء من الصخر الذي يتفجر أمام أحلامنا.
كنا نشبه أحلامنا. وكانت أحلامنا كأيامنا دافئة، مشرقة، مكتنزة، جميلة كهند، وخولة، وبثينة، ودعد. كنا نركض سباق المسافات الطويلة، رافعين راياتنا الجليلة، نجتاز الحدود، قاصدين قمم الجبال السود، لا تكل دواخلنا، ولا تمل أقدامنا من الصعود.

 

ولما ضاقت المسافات، وفات ما فات، وطلب منا المخطوفون بألوان غيرهم أن نغير جلودنا، وعقولنا، مشيتنا وترابنا، رفضنا. لأننا وببساطة نحب ترابنا ومشيتنا . ونحب لغتنا المبينة، وصباحاتنا السمراء، وشعرنا، وقهوتنا

ونجلّ أوطاننا ولا نقبل أن تصبح (ملطشة) للغريب الغريب، والقريب الغريب.
قلنا لا يموت الحلم، ولا تموت الأرض، ولا يموت الحق، ولا يموت الخير، ولا يموت الجمال، ولا يعيش الإنسان إلا واقفاً عزيزاً كالشجر الحر.
وقلنا مع ناجي العلي لا لتكميم الأفواه، ولا لكاتم الصوت، فاغتاله الظلام ولكن صوته بقي عالياً مضيئاً، لأنه كان صوت الناس، والحق، والعدل، ولأنه كان صوت الأرض، فلم يفرط في ترابه من أجل خاطر العيون الزرقاء، أو لخاطر بريق الدولار الأخضر.. ويا ليته يراهم اليوم وهم يفرطون بكل شيء راكضين خلف سراب التيه، وقلنا لا لتتفيه القضايا، ولا لتتفيه الثقافة، ولا لتتفيه الإعلام.

وقلنا لا لإلغاء الهوية، ولا للتنازل عن الهوية، ولا لتزوير الهوية. وقلنا لا للظلمة والعتمة فافتحوا النوافذ للشمس شمسكم قبل أن تحرقكم شموس الآخرين ونيرانهم.. وقلنا عليكم بالتعليم والإعلام قبل أن تجتاحكم الأمم بغسيلها.


وقلنا يا أمتنا اتركي مجالاً لأبنائك وبناتك أن يبدعوا، واتركي لهم مجالاً، أو في الأقل هامشاً، للتعبير والتجريب والتحليق واكتشاف الفضاء لكي لا ينتكسوا أو ينحرفوا أو ينضووا تحت لواءات ومغريات الغير.

وقلنا اجتثوا الكراهية والحقد وعلل الأنفس المريضة والقبيحة التي تؤذي، وتتعمد الأذى، وإن لم تستطع إلى ذلك سبيلاً فإنها تستعدي، وتشيع الضرر.. تلك التي لا تنفك تتقلب وتتلون كل حين، ولكنها تظل على أذاها الأول، واستعدائها القديم.

وقلنا إن الحل في الحب.. فعلموا أولادكم الحب، وأشيعوه، وعالجوا به، وهذبوا به، واغسلوا به بيوتكم وطرقاتكم، أصحابكم وأعداءكم.
كم قلنا وقلنا، وما زلنا نقول الجمال ونكتبه ونرسمه منذ البدايات. لا تمل خيلنا، ولا يذوي صهيلنا، ولم تستطع العداوات ولا الاستعداءات أن تقودنا إلى دروب الكراهية، أو أن تنتزع منا برماحها أغصان الحب. هكذا كنا وما زلنا.

 

ونحن لا يعنينا أن يقوم نفر من مستسهلي الإبداع وغواة الدهشة المصطنعة بسحب المشهد الثقافي اليوم بقوة إلى عصور الانحطاط، وسنفترض حسن النية، ونقول: عن جهل، وانسياق أعمى خلف رموز تافهة صنعتها مقولات فارغة، أو ظروف وظفوها لمصالحهم الضيقة: كالمراكز، والاغتراب.. والنفي.. والأخير لم يكن دوماً قَسْرياً، بل كان في الغالب سلّما لاستجداء البطولات الوهمية.

ومتسولو الإبداع الجديد اليوم يشبهون أكثر ما يشبهون ناظمي الأمس، أي أن " إبداعهم" يقودنا إلى نقطة الصفر مرة أخرى محطمين ومطفئين بذلك جهود وإبداعات وحرائق أجيال من الكبار في مختلف المجالات الإبداعية، حيث الاتكاء على الحذف بدلاً من المراكمة، بل قال بعضهم إن الإبداع يبدأ منهم، ومنهم فقط!!

وقد تناسى معظمهم أن تلك الإبداعات الكبيرة لم تأت من ( فراغ النص، وبياض النص، وتفجير النص، وتماهي النصوص، ومراعي النص). وإنما جاءت مبشرة، أو متفاعلة، أو نابعة من ثورات كبرى ضدّ الاستعمار والتخلفُّ والجهل في العالم العربي، ومن تغير واضح في الواقع.

كما جاءت سابقة أو متواكبة مع أحداث وتغيرات وثورات كبرى على الصعيد العالمي والإنسائي.

واستطاعت أن تثمر عندما تجذّرت في أرضها، آلاف الأعمال الكبيرة الخالدة والمؤثرة والمتجاوزة، والتي تضاهي بل تتفوق على كثير ممّا يقلّد اليوم للتباهي، والإدهاش الذي ينمُّ عن سذاجة وفقر في الأدوات، والحسّ، والموهبة، كما ينمٍّ في كثير من الأحيان عن انقطاعٍ كاملٍ عن الواقع، والتراث، وجهلٍ تامٍّ بالمتغيرات، وانفصامٍ حادٍّ. بينما ينمُّ في أحيان أخرى عن تقصُّدٍ لإدارة الظهر للقيم والمبادئ، وكل ما يتعّلق بجراح الأمة، والانسياق كالغربان وراء الغرب في قتلِ الروح، واللغة، والهوية، وكل ما أبدعته الحضارة العربيّة الإسلاميّة.

إذاً عن عمدٍ أو عن جهلٍ أو عن سهوٍ أخذت قافلةُ الغرب هذه تسيرُ واهمةً نحو جبل يعصمها لتطلق سهاماً قاتلة نحو صدر الإبداع العربي مستترةً بمقولاتٍ أصبحت مكشوفةً ومضحكةً رغم سمومها: كالتجاوز، واللحاق بالركب، والتماهي مع الآخر، والإدهاش حتى أصبحت ذابلة قديمةً مفضوحةً ممجوجة.

وقام هؤلاء بتفتيت القيم الثقافية، وتجريد الإبداع من كل هدف إلاّ المتعة الخاصة والإدهاش المضني إن هنالك من إدهاش، محتجِّين بمقولات تعود كلها لتصب في مقولة " الفن للفن"، أو أن الإبداع يبدأ من هنا، ولا بأس في الفن للفن، ولكن مع موقف والتزام واضح حين تحتاج الأمة لموقف واضح.

وأصبح من العيب والعار لدى بعضهم أن تكتب حرفاً واحداً عن قضية أو قيمة.

إلى أن أصبحت الثقافة بكاملها ثقافة مسيار!!

وثقافة متع زائلة، ونخبٍ أضاعت مشيتها.

وأصبح ذكر اسم فلسطين في العمل الإبداعي الشعري أو النثري، ومن قبل الإعلامي الفني تخلف، ينم عن أدب وفن قديمٍ متخلف.

ونحن هنا نعرف ماذا سيقولون: وسوف نبتدرهم بأمرين:

الأول: أن الجِدّة والدهشة والتحديث والتجاوز والفن العالي القافز فوق الأسوار، والوصول بالمفردة إلى أقصى طاقاتها، والإحالة لا الإشارة، والغموض الرفيع، وكل ما يتعلق بالتحديث والتجاوز مطلب وغاية ومنحى، نذود عنه، ونحاول منذ عمرٍ تحقيقهَ عبر القصيدة، أو عبر النوافذ التي فتحناها خلال ربع قرن من المثابرة، لإيصال رسالتنا النبيلة، وإبداعنا.

إذاً لن يستطيع أحد أن يزايد علينا هنا.

الثاني: أن التنصُّل من القضايا الكبرى أو تذويبها، وتجريد الأعمال الفنية من كل إحالة أو إشارة إلى هموم الإنسان العربي وتطلعاته لا يقود مطلقاً إلى العالمية أو وهمها.

ولعل الجميع يعرف أن طريق العالمية لنا ينبع من هنا، من المحلية والعربية، وأن نسيان هؤلاء القتلى والأسرى والجرحى والأوطان السليبة والأسيرة جريمة لا تغتفر، ومسألة لا يعاد فيها النظر.

أما المسألة التي فيها نظر فهي المسألة الإبداعية، ومنها سيل الكلام الفارغ البارد القاتل الذي يُفرض علينا من قبل بعض البائعين، والمقلّدين عن عمد أو سهو أو جهل.

ففي هذا العالم الذي أرادوهُ قريةً مزيّفةً صغيرة.. لا يوجد أبشعُ ولا أثقلُ ولا أتعسُ من المدافعين المنافِحين عن الباطل، المتمترسين خلفهُ، المتوائمين المتماثلين معه، حتى أنك تكادُ لا تُفرِّق بينهم وبينه. بل إنك لا تستطيع التفريق بينه وبينهم. فتقول: هذا باطلٌ، وهو باطلٌ، وهم الباطل.
أما مصدر الثقل فيأتي من كونهم يُعرَّفون في سياق المعرفة والثقافة والإعلام بالأطنان والأوزان، بالكتل والأحجام.


هكذا يقول العارفون الحقيقيون فيصفونهم ويصنفوهم بالكتل من لحمٍ فاسدٍ لا قلوب لها ولا ضمائر!!


وهذه الأطنان البشرية - إن صحّت الأخيرة - موجودة ومتأصلة في الثقافات عبر التاريخ، ولكنها ازدادت في التاريخ المعاصر، واستشرت بعد أحداث سبتمبر، وصولاً للخريف العربي!!


وإذا كان للغرب نصيبٌ فاتكٌ منها، فإن للعرب نصيباً مزرياً منها أيضا.
ولقد ارتقى هؤلاء الثقلاء من إعلاميين وكتاب وقد انسجموا مع ذواتهم الهجينة، وأوغلوا في حضارة الكذب - نعم للكذب حضارة - حتى غدوا كتلاً لامعةً من الكذب الأنيق، والمراوغة الفذة، والهلامِ المُزيّن بأربطةٍ عنقٍ لوَدَدت لو أنك ساحِبهُم على بطونهم منها.

ولكن هيهات وقد سحبوا البساط من تحت قدميك، واحتلوا بيتك، وشوهوا عقول أهلك وأطفالك ومجتمعك، وغزوك بما ترى وتسمع، وتحتاج وتأكل وتشرب.
ومجروحاً تسألُ هل هذا هو زمن الهزيمة أمام الكتل والأطنانِ من لحمٍ فاسدٍ، وكذبٍ مارد، وزيفِ مُقَنَّن؟!

أم أنّ الوقت مازال في يد القلوب والضمائر الصادقة المؤمنة؟!
وهل اكتوتْ القلوب والضمائر الحيّةُ الحرَّةُ بنيران وسياطِ الباطلِ لِتنتفِضَ وتُشعلَ قناديل ومشاعل الحقِّ والخير والحبّ والجمال؟!

وهل سمت فتسامَتْ أرواحها خفيفةً في الهواءِ، أبابيل في السماءِ لتزهق الباطلَ بسجّيلها؟!

وما دام الكاذبون قد مارسوا كذبهم حتى صدّقوه فهلاّ صرّح الصادقون بصدقهم، وصدحوا به، ورفعوه عالياً في وجوه أعدائهم، وجعلوه مرايا تُعرّي المنافقين من أبناء أمتهم الخارجين عن صراطِ الحقِّ والخيرِ والجمال، وعن أهلهم الغارقين في مستنقعات الغرب والمنافع الزائلة؟!
إنّه لمن المؤكّد في هذا العالم الذي أرادوا له أن يكون قريةً مُزيّفةً مسوّرةً صغيرة أنْ لا أثقلَ ولا أبشعَ ولا أتعس من المنافقين الذين بدّلوا ألسنتهم وجلودهم.. وأوطانهم!!

أعاذنا الله من بالونات الوهم، وأطنان الكذب والنفاقِ، أوَ لم يقل شاعرنا البردوني رحمه الله:

لذا تُلاقي جيــــــــوشاً/ من الخَواءِ المزخرَفْ !

إنها جيوش الثقافة السالبة ناقصةً كانت، أم مقلدةً أم سارقةً مفتونةً مُستَلبة.
وأعاذنا من الجوارحِ المُعطّلة، والضمائرِ الميتة.